المكان في المجموعة القصصية: " نقش في الحرف" لمجموعة برشيد
المكان في المجموعة القصصية: " نقش في الحرف"
بين الايحاءات الدلالية والأبعاد الرمزية*
المصطفى فرحات
يميز غالي هلسا بين ثلاثة أنواع للمكان حسب علاقة الرواية به، وهي:
1. المكان المجازي: وهو الذي نجده في رواية الأحداث وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دور التوضيح ولا يعبر عن مقاصد المؤلف.
2. المكان الهندسي: وهو الذي تصوره الرواية بدقة محايدة، تنقل أبعاده البصرية، فتعيش مسافته، وتنقل جزئياته من غير أن تعيش فيه.
3. المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقي فيستحضره بوصفه مكانا خاصا مميزا.
عندما ننظر إلى الكيفية التي وظف بها المكان في المجموعة القصصية:"..." سنلاحظ أن الكتاب يتخذون من المكان البؤرة التي منها ينطلقون وإليها يعودون لبناء متونهم الحكائية، بل يتحول المكان إلى ما يشبه رحم النص فيكون العنصر الحاسم في توليد الدلالة، والنقطة التي تتجمع فيها الرؤى والتخييلات والتصورات الذهنية ومن خلاله تبلغ الرسالة بكل حمولاتها ومكوناتها الصوتية واللفظية اللغوية والتركيبية والرمزية. وسأحاول في هذه الورقة أن أنطلق من عنصر المكان باعتباره ليس مجرد فضاء هندسي تتحرك فيه القوى الفاعلة وتتفاعل، ويؤسس لوجودها الثقافي والاجتماعي والفلسفي والنفسي ويفرض عليها في كثير من الأحوال نوع الأفعال التي تقوم بها، والأقوال التي تنطق بها...بل باعتبارها العنصر الجوهري المتحكم في لعبة السرد والسارد والمسرود، والممسك بخيوط العملية الإبداعية ككل. فكيف حضر المكان عند كتاب المجموعة؟
1. يحضر المكان عند عبد الغني صراض كمرآة وأرض الوطن ويافطة وحارة ووورقة وصفحة وسرير وأرض وطريق وخرائط وعتبة.
2. عند أكراد الوريني فهو قدحة باب وغرفة نوم وذات وزيت شجرة الزيتون وبورصات وغزة ومخيلة.
3. عند مصطفى طالبي يبدو فضاء ونقطة وصينية وقلبا ولوحة وزقاقا مهمشا وواحة وقبرا (وظف مرتين) وغرفة عريس.
4. عند كمال دليل الصقلي فهو جباليا ووزنزانة ومقر العمل والأقفاص والصورة وتحت الأرض ودور صفيح ومرآة
5. عند إبراهيم أبويه يتجلى ذاتا (وظفت مرتين) ورحم الوطن وساحة وجسدا ومجرات وخلف الجبال وكرسيا (وظف مرتين) وغرفة نوم وكتابا وغزة وذاكرة.
ومن خلال هذ الجرد يمكن إبداء جملة من الملاحظات:
1. هناك أمكنة تحضر بقوة في نصوصهم وتكرر إلى درجة يمكن القول معها أنهم يغرفون من بحر واحد.
2. يتقاطعون في أمكنة محددة كتقاطع أكراد الوريني وإبراهيم أبويه في تظيفهما للذات، وغرفة نوم، وغزة مما يدل على تقارب كبير بين تجاربهما الأدبية.
3. يمكن تصنيف الأمكنة التي تم توظيفها إلى نوعين: أمكنة واقعية تشغل حيزا هندسيا ويمكن التعرف عليها بسهولة وبالتالي فالمتلقي يتلقى الرسالة بوضوح وشفافية. وأمكنة رمزية يحتاج فيها المتلقي إلى استعمال آليات التأويل ليتهيأ له الكشف عن البعد الرمزي المتجسد فيها والذي يلقي بظلاله على دلالات النص.
ولعل السؤال الجوهري الذي سأحاول أن أجيب عليه هو كيف يشتغل المكان في المجموعة لتوليد الدلالة في بعديها الواقعي والرمزي اللذين غالبا ما يحضران متجاورين في نصوص المجموعة؟ مع العلم أن المكان ـ من وجهة نظري ـ يشكل عنصرا مركزيا في تحديد هوية القصة القصيرة جدا.
للإجابة على السوال سأختار وبشكل عشوائي نصا واحدا لكل كاتب، وسأسعى للكشف عن الكيفية التي يشتغل بها المكان دلاليا ورمزيا إلى درجة أنه يفرض سلطته وسطوته على المبدع وتصبح الكتابة تداعيات وليس اختيارات.
1. قصة "انهيار" لصراد عبد الغني.:
( على الجانب الأيمن من الحارة التي تحمل تاريخي، انهار المسجد العتيق...المدرسة القديمة..على الجانب الأيسر من الحارة التي أحمل تاريخها، شمخت الملاهي..المراقص..و..
بين الجانبين، انكمشت الخرائط..ضاع الصباح..وأشياء نعشقها.)
يتخد الكاتب من الحارة التي قضى فيها حياته فضاء للكشف عن صراع القيم التي تجسدها أمكنة ثانوية وردت في النص بناء على ثنائية ضدية تقوم على قيم النبل مقابل قيم الزيف، قيم الأصالة مقابل قيم الحداثة والمعاصرة، لقد عمد الكاتب إلى هندسة فضاء الحارة مشكلا منه ثلاثة دوائر:
الأولى: تضم أمكنة لها رمزيتها الدينية والثقافية: (المسجد العتيق ـ المدرسة القديمة).
الثانية: نجد أمكنة هي نتاج ثقافة وحضارة أجنبية تم استنساخها ولا لا علاقة لها بالثقافة الأصيلة: (الملاهي ـ المراقص).
الثالثة: وهي الدائرة التي نشأت من تقاطع الدائرتين السابقتين حيث نجد قيم الضياع والإغتراب، وقد عبر الكاتب عن هذه القيم بأسلوب رمزي: (انكماش الخرائط ـ ضياع الصباح ـ أشياء نعشقها).
ويمكن تفسير لجوء الكاتب إلى الرمزية لأنه لم يجد في حارته مكانا مؤهلا ليجمع بين هذه القيم التي أراد لها أن تكون العلاقة القائمة بينها علاقة تعارض وتضاد وليست علاقة تكامل، وفي أدنى الأحوال علاقة تجاور وتعايش.
إن المكان في هذا النص يريد أن يقدم نفسه مؤشرا لذات مبدع ربط تاريخه الشخصي بتاريخ حارته، وعكس نمطا من الوعي بواقع ثقافي وحضاري يجسد في جوهره ساحة الصراع بين حضارتين، حضارة الكاتب الذي شكلته الحارة، ولكن للأسف يبدو أن هذا التاريخ وصل إلى نقطة اللاعودة، بل انتهى وإلى غير رجعة لأنه عجز عن الصمود في وجه حضارة قوية فرضت نفسها بديلا. إنها نظرة قاسية ومتشائمة من الكاتب الذي وجد نفسه في آخر المطاف يقف متحسرا ومفجوعا وعاجزا عن تغيير واقع كان بالنسبة إليه هوية وانتماء.
2. قصة "إعجاب" لمحمد أكراد الورياني":
(سرقت لبه منذ ولوجه المكان، وقف يرمقها بنظرات الولهان، ثم تمتم قائلا:
مكانك الأمثل غرفة نومي..دنا منها أكثر وهو يتحسس ما بجيبه من مال..
بعد حين..كان يثبتها بمسمار على الجدار..)
في هذا النص يتجلى المكان في ثلاث صور:
الأولى: مكان بلا اسم محدد سماه "المكان"، وبالتالي فهو بدون هوية واضحة مع أن هناك مؤشرات يمكن أن تساعد المتلقي على التعرف عليه.
الثانية: مكان محدد المعالم وهو "غرفة النوم".
الثالثة: جدار غرفة النوم.
وما بين المكانين بالكاد نتبين ملامح شخصية مسكونة بهاجس رغبة جنسية غير مشبعة، شخصية تائهة مشغولة بالبحث عن موضوع للإشباع.
إن المكان الأول والذي يبدو بلا ملامح يعطي الحدث الذي يحدث في نطاقه صفة الشمولية والعمومية، بمعنى أن الحدث قد يقع في أي نقطة من هذا العالم، وبالتالي فالأمر لا يرتبط بمجتمع محدد. ولكن عندما نتحدث عن غرفة النوم فإن الإيحاءات تتوارد على الذهن، فالغرفة مكان حميمي، فضاء للخلوة والحلم والإستيهامات، إنه فضاء لاكتشاف الجسد في بعده البيولوجي الطبيعي، والروحي النفسي، فاختيار غرفة النوم لإنهاء حركة السرد، يضع المتلقي في قلب الحدث ويجعله يستوعبه في جزئياته. أما المكان الثالث المتمثل في جدار غرفة النوم الذي يرتبط في الواقع بدلالات الفصل والعزل ما شابه، يتحول في النص إلى عامل مساعد لتجاوز الحصار والعزلة.
إن المكان العام الأول يتحدد بوجود أنثى جميلة تؤتثه، أما الجدار فيتحدد بوجود نفس الأنثى تزينه، ولكن في مكان حميمي يسمح للشخصية أن تحول أفعالها الإستيهامية إلى أفعال حقيقية وبالتالي تحقيق الإشباع.
رغم أن القصة بسيطة في ظاهرها إلا أنها تطرح إشكاليات عميقة تتمثل في العلاقة بين الجنسين ضمن ثقافة تكرس الفواصل وتعمق الهوة بينهما، وربما هذا ما يبرر حضور الجدار في النص الذي أراد له الكاتب أن يكون عامل جمع وليس عامل فصل.
3. قصة "الإبريق" لمصطفى طالبي:
( في الصينية..جلس شامخا..متعاليا..قوي البنية..منتفخ البطن..أصلع الرأس..غليض القلب..مقعدا في جلسته..ينتظر اليد الخادمة..التي تعينه ليصب جام غضبه..على الكؤوس الملتفة من حوله.)
في هذا النص يتخذ الكاتب من فضاء الصينية مجالا للتعبير عن تجربته الإبداعية، ولا شك أن اختيار الصينية ـ رغم أن الإمكانيات متاحة لاختيار فضاء آخر أكثر ملاءمة للتجربة ـ له ما يبرره. فالصينية مرتبطة في المخيال المغربي بالنخوة والثرف والغنى والجاه، وهي أيضا عنصر يحقق التواصل سواء في لحظات الفرح أو لحظات الحزن، إنها تجمع وتوحد وتقرب الناس بعضهم لبعض.
إن اختيار فضاء الصينية كإطار هندسي للحدث يستدعي استحضار العناصر والقوى الفاعلة التي تؤثثه وهي: البراد والكؤوس والساقي. وقد التقط الكاتب هذا الفضاء مدخلا بعض التحوير لكي يبلور تجربة قصصية مبتكرة تجمع بين الطرافة والجدة لعب فيها الترميز دورا فاصلا في تحقيق الرهان.
فقد استبدل البراد بالإبريق لأن للفظة إبريق مرتبطة في المخيلة المغربية بالشخص البليد والمتخلف ذهنيا وفكريا، وعندما يأخد الإبريق مكان البراد رمز الأبهة والصلاح والنخوة فلا شك أن أمورا غير عادية ستحدث، إن وجود الإبريق في الصينية سيجعل من هذا الفضاء المرتبط في مخيلتنا بكل ما هو حميمي وجميل وممتع ورائع إلى فضاء لن يكون إلا مشوها وقبيحا ومقززا.
هكذا إذا يضعنا الكاتب في مناخ نفسي وفكري بمجرد اسبدال عنصر بعنصر آخر، وبالتالي يصبح المكان خالقا لدلالات جديدة لا يصعب علينا أن ندركها بدورنا.
ومن خلال الأوصاف التي خص بها الكاتب إبريقه، يبدو أنها صفات لا تؤهله أن يتواجد في فضاء الصينية، فرؤيته على هذه الهيئة تثير التقزز والنفور والإشمئزاز، أما الكؤوس المصطفة أمامه فلا تحرك ساكنا، إنها تنتظر وتترقب ما سيحدثأمامها أو لها، وتبقى مشكلة الإبريق الوحيدة هي عدم قدرته على الفعل الذاتي، إنه عاجز على صب السائل الحارق الذي يحتويه جوفه في الكؤوس المنتظرة والمترقبة، فهو يحتاج إلى كف ترفعه عاليا حتى يستطيع أن يحرق من حوله.
لقد قدم لنا الكاتب شخصيته ـ الإبريق ـ في صورتين متناقضتين: الضعف والقوة، فهو بليد وغبي ومتخلف ذهنيا وفكريا، وقوي ومثين بدنيا، وهذا ما يشجعه على ممارسة سلطته وساديته على محيطه، ومع ذلك فهو يحتاج دوما إلى الدعم والمساندة من الخارج، وهي إعاقة كفيلة أن تضعف من السلطة التي يمارسها على أناس بسطاء،طيبين ومسالمين. لقد بنى المكان في القصة شبكة من العلاقات هي من شكلت رؤية الكاتب، وأبانت عن رسالته.
4. قصة "كائن الأعماق" لإبراهيم أبويه:
( أيها العابرون على جسد الجروف، هلا نفذتم إلى ألمي؟
ألا ترون الكائن الغريب الذي يحتلني؟
كائن يستنسخ العالم بتفاصيله ويقتات من جسدي..
ربما هو ذكر مثلي أو أنثى فقدت سر وجودها، ربما يكون ملاكا أو شيطانا، لست أدري !
هو كائن مجهول لا ديانة له. حين أسافر في الملكوت باحثا عن توأمي، يجرني إلى أعماق البراكين حيث تتجمع كل الشرور...
ينهض في أعماقي حين أغفو ليصنع الأحلام بكل الألوان. لم ينفع معه البخور الذي جلبته جدتي بعد زيارتها الأخيرة لضريح في قمة الجبل، التمائم عجزت عن طرد الكائن الذي يسكنني.
وفي يوم مطير\ن و\انا \اتململ بين السطور، سقط الكائن مني وفي عينيه نظرة غريبة ودمعتان قديمتان من زمن الطفولة، ما زلت أذكرها...
تساقطت أشلاء الكائن لتتحول إلى بقع ملونة بأشكال مختلفة، ثم رأيت جنازة تخرج من باب منزلي تتبعها امرآة موشحة بالبياض، هممت بالنهوض لكن فراغا كبيرا كان بداخلي، هل أكون أنا الذي يحمله الصندوق الذي تبكيه المرأة الموشحة بالبياض؟؟؟)
في هذا النص يتخذ الكاتب ذاته كفضاء تتفاعل فيه الأحداث والشخصيات، وداخل فضاء الذات تحضر فضاءات أخرى لتعمق التجربة، وتغني الدلالة، وتولد الرمز، فقد حضرت أعماق البراكين، وبين السطور، باب المنزل، الصندوق، الضريح، قمة الجبل. وعندما نتساءل عن اجتماع هذه الأمكنة المتناقضة والمتعددة مع العلم أننا بصدد القصة القصيرة جدا فإننا لا نجد إلا تفسيرا واحدا، وهو أن ذات الكاتب هي البؤرة التي يتجمع فيها كل شيء ويتفرق.
وحين نتأمل فضاء الذات نلاحظ أن الكاتب أشار إلى أربعة أجزاء منها، وكل جزء من هذه الذات يحضن حدثا محددا، ويفرض أن يولد الحدث الجزئي بقية الأحداث الأخرى، فتتآلف الأحداث مجتمعة لتشكل في آخر المطاف رهان القصة. وهذه الأجزاء هي:
1. الذات/الجسد في ماديته والذي يقتات عليه الكائن الغريب الذي يسكنه.
2. الذات/الوعي تحضر هذه الذات عندما يقرر الكاتب السفر في الملكوت وهو يبحث عن الشخص الغريب الذي يسكنه، ولكن لسوء حظه فالسفر ينتهي إلى مأساة، أعماق البراكين.
3. الذات/الهو أو الاواعية تحضر في اللحظة التي يوجد فيها الكاتب بين لحظة النوم واليقظة يستيقظ الكائن الغريب ليلون أحلامه، ويمنحه ربما لحظة سعادة عابرة
4. الذات/الكاتبة أو المبدعة تطل علينا في اللحظة التي يكون فيها السارد منهمكا في الكتابة، وهي نفس اللحظة التي مكنته من التخلص من الكائن الغريب الذي يسكنه، لكن كان في سقوطه منه موت السارد، الذي أدرك ـ بعد فوات الأوان ـ حجم الخدمة التي كان يقدمها له هذا الكائن. لقد كان يجهل أن مصيرهما واحد.
إن اختيار الكاتب لذاته مكانا لتأطير أحداث القصة منحه حرية أكبر لتنويع الأحداث والشخصيات، والأمكنة،ومكنته من التخلص من الترابط المنطقي للأحداث مادامت هذه الأحداث تجري داخل فضاء بلا حدود هندسية أو جغرافية. وسمحت له بتوظيف التداعي الحر في صياغة الأحداث دون أن يكون مضطرا للبحث عن الروابط والعلاقات المنطقية بينها مادم فضاء الذات سواء كانت جسدا أو وعيا أوهوا أو تخييلا هي في آخر المطاف من يربط بين ما لا يرتبط في الواقع، ويمنطق ما هو غير منطقي.
بناء على هذا يمكن القول بأن الكاتب قد راهن على المكان كعنصر تبئير منه وفيه وإليه يجد النص ككل دلالته ومعناه.
5. قصة "حريق" لكمال دليل الصقلي:
( كان جواله يرتعش بين يديه وهو يركب رقم الوقاية المدنية.
بعد سبع رنات:
الغوث، الغوث..الحريق يحاصرنا..
بعد الإطفاء بأيام، انشق رماد دور الصفيح، فانبعث فندق من خمس نجوم.)
تبدو الأمكنة في نصوص الكاتب أكثر واقعية وتبعد عن الرمزية، ففي عشرة نصوص التي بين يدي وردت الأمكنة الآتية: (جباليا – الزنزانة – البيت – الأقفاص – الماء – دور الصفيح – فندق - المسار – المرآة ).
سأحول أن أقارب طريقة تعامله مع المكان في قصة حريق لتحريك الحدث والشخصيات وبالتالي التعبير عن معاني كثيرة بألفاظ قليلة مستغلا الحمولة الإيحائية لكل من المكانين اللذين شكلا خلفية للحدث والشخصيات.
اختار الكاتب دور الصفيح كفضاء يؤطر الحدث، وبمجرد من نسمع دور الصفيح تتداعى إلى أذهاننا صور مأساوية، فهذا المكان له وقع خاص في نفسية المتلقين لما يوحي به من دلالات الفقر والتهميش و الإقصاء والبؤس وغياب العدالة الاجتماعية، إنه المكان المناسب الذي يفقد فيه الإنسان إنسانيته. وهو بهذا يود أن يكسب تعاطف القارئ الذي يستشعر الغبن الإجتماعي والاقتصادي. وفي المقابل ولكي تتعمق هذه المشاعر، ويتخذ المتلقي موقفا الداعم والمساند لشريحة اجتماعية تقطن دور الصفيح يستحضر مكانا آخر مناقض تماما، إنه فندق من خمس نجوم، بما يوحي به من غنى وثراء ومكانة اجتماعية وتميز وتفرد، وبالتالي فعندما نقارن ذهنيا مستحضرين صورة دور الصفيح وفندق من خمس نجوم سنستنج حتما أننا نعيش داخل مجتمع فيه تفاوت طبقي رهيب لا نملك معه إلا أن ندينه. وليعمق الكاتب الإحساس بما يمكن أن نسميه الحقد الطبقي سيعرض دور الصفيح للإحتراق، ورغم النجدة التي طلبت، فقد تأخرت الإستجابة لها ، وحتى عندما حضرت كان الوقت قد فات، فالنيران أتت على الحي بكامله وتأخر الإغاثة إشارة واضحة من الكاتب على أن هناك أيادي خفية هي التي سببت الحريق للإستفاذة من الأرض التي بنيت عليها دور الصفيح.
وعلى العموم فالكاتب توفق كثيرا من توليد الدلالات التي قصدها من خلال توظيفه لهذين المكانين وبالتالي تعرية الواقع ووضع المتلقي في قلب انشغالاته.
إن المكان لا يستهدف في النصوص السردية من أجل ذاته فحسب بل يتحول في كثير من الأحايين إلى فاعل أساسي في خلق العوالم الحكائية شأنه في ذلك شأن القوى الفاعلة والزمان واللغة وكل الوسائل الأخرى التي نتوسل بها في بناء عالمنا القصصي.