ورقة تقديمية:
مصطفى ملح* يقطر دما
عبدالهادي روضي
شاعر من المغرب
تشكل جملة " أنا لا أكتب شعرا وإنما أقطر دما "، عتبة أولى تستوقف كل متوغل لفضاءات ديوان " دم الشاعر"** ، الصادر مؤخرا عن منشورات سلسلة الكتاب الأول لوزارة الثقافة المغربية، للشاعر المغربي مصطفى ملح، مثلما تشكل ملمحا دالا على الإواليات الدلالية والإيقاعية التي تؤتت أضمومة الشاعر الأولى. إنها جملة تنفي عن الذات الشاعرة انغماسها المجاني في لعبة القصيدة، وتعضض مشروع الشاعر المبني على وعي شعري خلاق، لا يستكين للمنجز النصي للقصيدة المغربية الحديثة، يقول الشاعر: " مطلوب من الشعراء أن يوطدوا علاقتهم بالتراث النقدي والشعري . وأيضا تطوير العلاقة مع النظام النحوي والبلاغي والجمالي بشكل عام "(1).
في دم الشاعر يجد القارىء الشغوف بانعطافات القصيدة وانسيابها، أمام متحق شعري يتخذ من الذات منطلقا لترجمة كوامن قلقة ومتشظية، تقف موقفا يتسم بالسخرية اتجاه المرئي.
آمنت أن يدا تلوح لاكتمال هلالها
المغموس في الوشم
وأن تجار الجنائر طوقوا زهر الحديقة
ساعة انقرضت أكاليل الصباح (2)
ثمة حرص يؤطر هذه الذات المؤججة باللوعة، الذات التي تجس نبض ما يحدث، في محاولة لإعادة الانتباه للرغبة الجامحة لتجار الجنائز، هؤلاء الذين يمجدون الدم البشري تحقيقا لطموحاتهم العدوانية.
لكن هذا الإيمان سرعان ما يتحول إلى نوع من الإدراك الممزوج باليقين، اليقين بالخيبة، ثم الموت فوق الطاولة، إنه موت الإرادة الشعرية المجازي، وعجزها عن صنع بدائل للمصير الوجودي المشترك، ومن ثم تطرح علاقة الشاعر وموقفه مما يجري:
أدركت أن يدي تحرك قهوة الشعراء
ثم تموت فوق الطاولة
أدركت أن دمي سيعصر برتقالته الحزينة
ثم يرحل باتجاه المقصلة (3)
دم الشاعر لا يستصيغ الروتوشات والحقائق المرئية، لذلك يتخذ من الرحيل ملجأ نهائيا لنفض وجع الانتكاسات، التي ترفض الذات الشاعرة الانخراط في بلورة اجتياحها.
وبين الإيمان والإدراك ينتصب وعي الشاعر وحضوره، مسافتين دالتين على عمق تلك الذات والتحامها بما يسم الواقع من إخفاقات غير مستصاغة، غير أن هذا الالتحام غالبا ما يتخذ صبغة سلبية، وتلك ميزة تشي الديوان ككل، لا تقف حد المداراة، بل تتزى الدفاع عن خيارات تصر الذات المنكسرة على الجهر بأطروحاتها، ضداعلى القبيلة/ العادة/ الرتابة، انتصارا للجمال:
ماذا تريد القبيلة مني؟
أنا الساحر الحر صانع قلب لجمال
أنا الارتعاشة في ملتقى الشفتين(4)
استفهام الشاعر هنا يكتسي صبغة الاستنكار، الذي يحمل دلالات المعرفة، فالشاعر رائي يعرف القبيلة/ المجتمع/ العادات/ الأعراف البائدة، ويتحسس مخالبها الخانقة، لكنه يخالفها كل شيء، ويكفيه أن يكون ساحرا حرا يهتك سنا الاستعارة ليخلخل بنيات القبيلة ومتخيلها الاعتياديين.
هكذا تتراءى الذات منفصلة عن منطق ما يحيط بها، مؤمنة باختياراتها في ارتياد فعل الكتابة، من منطلق اللااستكانة واللا اكتمال:
أنا كائن غير مكتمل
كائن ممكن مستحيل(5)
ولأن الذات دائمة التحديق والبحث عما يبدد هواجسها، فقد كان الشاعر وسيظل حالما بمسافات شعرية أكثر شساعة للبكاء ولفضح العالم:
كنت أحلم لو يسع الطست جسمي
وجسم ابنة الصم
لنبكي معا فرحا باحتلال العالم
لو سمع العمر ما شاخت أشجار كثيرة(6)
مصطفى ملح شاعر مائز تشكل تجربته الشعرية طفرة نوعية في المنجز الشعري التسعيني، من حيث الوعي الشعري، وقدرته على خلق تساوق بين ما هو شعري ونثري، متخذا من قصيدة التفعيلة مسكنا رمزيا، وهو بهذا الاختيار يكسر عادات الانكتاب، حيث لم ينحز لقصيدة النثر كما يفضل كثيرون من الأصوات الشعرية التسعينية بالمغرب.
*هوامش:
* مصطفى ملح شاعر مغربي من مواليد 1971، عضو اتحاد كتاب المغرب، شارك في عدة ملتقيات شعرية، صدر له قيد الطبع: "بين الكاف والنون" ،شعر، القيامة ،شعر، من سرق تاج الأميرة، شعر، وأعمال أخرى.
** دم الشاعر، منشورات وزارة الثقافة،2006.
(1) على ضفاف الفضفضة، حوار مع الشاعر، حاوره هشام بن الشاوي، موقع دروب، 29/9/2007
(2) دم الشاعر،ص:22
(3)نفسه، ص:23
(4)نفسه، ص: 23
(5)نفسه:ص:34
(6)نفسه، ص:37