[font=Arial Black]
[size=18]نحو قراءة جديدة.
نتناول فى هذه الدراسة قراءة فلاسفة ما بعد الحداثة للفلسفة الكانطية. وهى واحدة ضمن قراءات عديدة للفلسفة النقدية وتعد أكثرها معاصرة، رغم قلة ، او ندرة توقف الباحثون أمام هذه القراءة (1). وربما يرجع سبب ذلك إلى رد مصادر ما بعد الحداثة الفلسفية دائما إلى نيتشه وهيدجر وليس إلى كانط، رغم الاهتمام الكبير الذى أولاه ما يطلق عليهم فلاسفة ما بعد الحداثة نحو عدد من القضايا والتصورات التى شغل بها صاحب الفلسفة النقدية متعمقين فيها مطورين لها. تزداد أهمية فلسفة كانط زيادة مستمرة فى العصر الحالى، ويتجلى ذلك فى مظاهر متعددة منها تكوين جمعية الكانطيين بباريس 1988 والتى يرأسها حاليا ج. فرارى G. Ferrari رئيس تجمع الجمعيات الفلسفية الناطقة بالفرنسية والأستاذ بجامعة ديجون Dijon . كما تظهر فى هذا الحضور لدى الفلاسفة المعاصرين الذين يعودون دائما للفلسفة النقدية بالقراءة والتفسير خاصة في الهيرمينوطيقا لدى جادامر وريكور ، ولدى هيدجر. ومهمة هذه الدراسة تحليل هذه القراءة وبيان أن اهتمام أصحابها بفلسفة كانط يتقارب مع اهتمامهم بصاحب فلسفة "إرادة القوة" و"العودة الأبدى" واهتمامهم بصاحب "الوجود والزمان". والسؤال الذى نطرحه هو ما هى الجوانب التى توقف أمامها أصحاب ما بعد الحداثة؟ وما هى التفسيرات التى قدموها لهذه الجوانب؟ وهل يمكن القول أن هناك توجها لديهم نحو فيلسوف كونجسبرج وفى أى اتجاه يسرى اهتمامهم بفلسفته؟ هل نحو نظرية المعرفة أم الأخلاق؟ أم أن ما لفت انتباههم إليه الجوانب الجمالية والسياسية والتاريخية؟
ويمكن القول أن القراءة ما بعد الحداثية للفلسفة الكانطية، قراءة تضاف إلى قراءات سابقة متعددة لهذه الفلسفة. فالواقع أن كل اتجاه فلسفى يجد فيها ما يدعم توجهاته . فهناك قراءة تحليلية ، وقراءة ماركسية ، وقراءة بنيوية، وقراءة حداثية. ويمكن أن نشير بإيجاز إلى ملامح بعض هذه القراءات السابقة لبيان ثراء الفلسفة النقدية التى توقف أمامها الفلاسفة الجدد، أصحاب ما بعد الحداثة أو فلسفة الأختلاف.
أهتم كانط فى فلسفته كما هو معروف بالنقد، والنقد يعنى نقد قدرات العقل المعرفية وبيان حدود هذه القدرات قبل تجربة المعرفة، والإدراك للكشف عن المبادئ العقلية الأولية الخالصة التى تؤسس التجربة وتجعلها ممكنة، أى تحديد إمكان المعرفة لبيان ما يمكن ولا يمكن معرفته، أى أن الفيلسوف أنشغل بالعقل والذات العارفة أكثر من أنشغاله بواقع تجربة المعرفة والأشياء المعروفة. فما يهدف إليه هو البحث فى مشروعية المعرفة، أى ما يعطى أحكام العقل المعرفية صدقها وموضوعيتها. والمتعالى (الترنسندتنالى) عند كانط ليس سوى هذه الطريقة فى البحث، أنه المبدأ الذى يفسر خضوع التجربة بالضرورة لتصورات العقل المستقلة عنها، هو ذلك المجال الذى يتيح الربط على نحو ضرورى وكلى بين التصورات المحضة ومعطيات التجربة بين المباحث العقلية والوقائع التجريبية بين عالم العقل وعالم الطبيعة. (*)
وقد وجدت هذه الفلسفة تفسيرات أو قراءات عديدة، منها أنها فلسفة تحليلية.
1- الفلسفة النقدية فلسفة تحليلية هكذا كتب داعية الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية زكى نجيب محمود جاعلا من كانط رائداً للتحليل. فالفلسفة مهمتها التحليل، والكشف عن الفروض السابقة المطلقة التى ينطوى عليها تفكير الناس فى عصر من العصور هو الواجب الأول للفيلسوف، ولما كان كانط قد جعل مهمته الأولى أن يحلل قضايا العلم مثل هذا التحليل، فإننا نعده فى طليعة فلاسفة التحليل (2). ويفصل لنا زكى نجيب هذه القراءة فى الفصل الثانى من كتابه "موقف من الميتافيزيقا" محاولا أن يجد سندا لهذا الموقف عند كانط. فقد كتب "نقد العقل النظرى الخالص" وأراد أن يمهد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم فى المستقبل خالية من أوزار الماضى وأخطائه، أنه لم يرد بكتابه أن يقدم تفكيرا ميتافيزيقيا إيجابيا بل أراد أن يتخذ منه آداة تعينه على كشف الطريق السوى للبحث الميتافيزيقى المنتج.. لكنه لا ينتهى من بحثه ذاك إلا وقد أدرك أن التحليل للقضايا العلمية فى الرياضة والطبيعة هى كل ما يرجوه الفيلسوف لنفسه ولا شىء غير ذلك. فإن كان للميتافيزيقا معنى فهى تحليل القضايا العلمية. لهذا نجد الفيلسوف الإنجليزى التحليلى أير Ayer يهتم بكانط وبتقديم كتاب س. كورنر S. Korner عنه (3).
2- وهناك ما يمكن أن نطلق عليه القراءة الماركسية لفلسفة كانط - صحيح ليست هى السائدة مثل القراءة التى تربط ماركس بهيجل - نجدها لدى فلاسفة مدرسة ماربورج في محاولتهم تأسيس الأخلاق الاشتراكية على نظرية كانط في الفكر العملي خاصة عند هرمان كوهين ، الذي روج للإشتراكية الخلقية (4) ، وكارل فورليندر Vorlnder (5) وكذلك لدى فلاسفة المدرسة الماركسية النمساوية أمثال : ماكس ادلر (1783-1937) واوتوباور ، ورودلف هلفردنج . فقد رأي أدلر أن لدى الكانطية أكثر من فلسفتها الخلقية لتزويد الماركسية بما يلزمها من عناصر فلسفية، وحاول أن يطبق الترانسندتنالية الكانطية على نظرية المادية التاريخية (6) إلا أن أهم ممثل للنزعة الكانطية في الماركسية الفيلسوف الإيطالي المعاصر لوتشيو كوليتي lucio colleti الذي نادى بنزعة كانطية ـ فيما يقول عادل ضاهرـ في محاولته إيجاد حلقة الوصل بين كانط وماركس في نظره كانط إلى الوجود على أنه شئ فوق منطقي extra logical فهذه النظرة إلى الوجود هي ما تحتاج إليه الابستمولوجيا الماركسية باعتبارها ابستمولوجيا مادية (7). وهناك من يرى أن ماركس أظهر بعض التأثير بكانط مثل الفيلسوف الألماني المعاصر ياكوب طاويس Jacop Toubes ( .
ويمكن أن نلتمس كانطية بنيوية لدى كلود ليفي ستروس Straues حيث يبدو تأثير كانط على الأنثروبولوجيا البنيوية عنده . وستروس يعترف جزئيا بهذه الكانطية. لقد وصفت الأنثروبولوجيا البنيوية بالفعل بأنها كانطية بدون ذات متعالية ولم يرفض ستروس نفسه هذا الوصف لأبحاثه ، بل أنه أكد هذه القرابة التي تربطه بفلسفة نقدا العقل النظري وقد كتب في الصدد يقول : "عندما نضع كهدف لأبحاثنا ، الكشف عن الاكراهات الذهنية ، فإنه اشكاليتنا تلتقي مع الفلسفة الكانطية ، على الرغم من كوننا نسلك سبلا أخرى . ويرى البعض أن اللاشعور في الأنثروبولوجيا البنيوية لا شعور مقوليا يتصف أساسا بقدرة على التركيب والتأليف أنه نمط من البنية الصورية التي تضم المبادئ القبلية للتعقل والتفكير والمعرفة يمكن أن يماثل بما هو موجود في الفلسفة الكانطية (9).
وينظر جان جراوند Jean Grondin أحد الكانطين المعاصرين إلى نقد العقل عند كانط بمنظور بنيوي فقد تعامل كانط مع موضوعه (نقد العقل) بطريقة بنيوية تزامنية لا بطريقة توليدية أو تاريخية . ومن هنا فهو لم يسع إلى استعراض تاريخي للمعارف والافكار . بل هدف بالدرجة الأولى إلى تحليل بنى وأليات أو وصف قوي ووظائف ، أو استنباط قواعد بالمعنى اللغوي النحوي للكلمة ، لقد أكتشف كانط أرض معرفية جديدة لم يتم استيطانها لقد أراد لنقده أن لا يكون فقط تاريخا للعقل الفلسفى بل تحليل جغرافية ورسم خارطة العقل البشرى (10).
ويمكن أن نضيف أهتمام هابرماس، وأهتمام مفكرى الحداثة بهذه الفلسفة تمهيداً لتناول قراءة فلاسفة ما بعد الحداثة لها.
يؤكد هابرماس أهمية الحداثة وضرورتها وأنها لازالت لم تسنفد دورها فهى مشروع لديه ما يقدمه، لم يستكمل بعد، يواصل تقاليد الحداثة والتنوير ويطورهما وهو ما يزال مرتبط عن كثب بتقليد التفكير النقدى التحريرى الاجتماعى الذى شعاره المبكر مقالة كانط الديالكتيكية ما التنوير؟. ويمكن مراجعة مناقشة هابرماس لمقالة كانط فى دراسته "التصويب إلى قلب الحاضر" فى كتاب ديفيد كوزيه هوى: "فوكو قارئ نقدى، أكسفورد، ودراسة كل من هوبرت، بول راينو: ما النضج؟ هابرماس وفوكو حول مسألة ما هو عصر التنوير (11). حيث لنا أن هابرماس ما يزال جوهريا مشغول بالأسئلة الثلاثة للنقد الكانطى: ماذا يمكن أن أعرف؟ ماذا على أن أفعل؟ وماذا يمكننى بشكل معقول الطموح إليه؟ كما فى كتابه الوعى الاخلاقى والعقل التواصلى.
****
وإن كان البعض يرى أن تفكير هابرماس فى إعادة صياغة هذه الأسئلة ضن صيغ لغوية تواصلية أو أفعال - كلامية - مؤشر على تراجع هابرماس عن "موقفه الكانطى" القوى الذى تجلى فى كتاباته الأولى وهذا ما دعا إلى دراسة منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت (12).
ويهمنا أن نحدد موضوعنا فى البداية بالأشارة بإيجاز إلى بعض الأراء التى تسعى لتعريف ما بعد الحداثة ، ورغم تعدد وتشعب بعض هذه التعريفات وعدم تحددها ـ حتى نتمكن بعد ذلك فى الفقرات التالية تناول موقف كل فيلسوف من الفلسفة النقدية، لكى نعطى صورة ثانية عن مصادر ما بعد الحداثة الفلسفية تضاف للمصادر المعروفة لها والتى تتوقف خاصة عند نيتشه وهيدجر وأحيانا فرويد (13).
وعلى الرغم من صعوبة تقديم تعريف لما بعد الحداثة لكثرة هذه التعريفات وأختلافها وتعقد لغة أصحابها واتساع معارفهم فإننا نهدف إلى تحليل مجموعة النصوص التى قدمها كل من: جيل دولوز وميشيل فوكو وفرانسوا ليوتارد د وجاك دريدا الذين يشار إليهم - رغم الاختلافات بينهم ورغم تطور أعمالهم وفقا لمناهج وتوجهات فلسفية مختلفة عبر مراحل كتاباتهم - على أنهم فلاسفة ما بعد الحداثة (14) .
تشير كارول نيكلسون إلى أن أطروحة ما بعد الحداثة فى الفلسفة تشمل عددا من المقاربات النظرية من بينها: النزعة البنيوية و البرجماتية الجديدة. وهى مقاربات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات العارفة باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفى الحداثى الذى خط معالمه الأولى ديكارت وكانط" (15). وتمثل ما بعد الحداثة - عند البعض - حركة فكرية تقوم على نقد، بل رفض الأسس التى تركز عليها الحضارة الغربية الحديثة، كما ترفض المسلمات التى تقوم عليها هذه الحضارة، أو على الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها. ولذا يذهب الكثيرون من مفكرى ما بعد الحداثة إلى أعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية. أن عصر الحداثة عندهم أنتهى بالفعل، وما بعد الحداثة ، تهيئ ، بأعتبارها نقدا له ، لقيام مجتمع جديد يرتكز على أسس جديدة غير تلك التى عرفها المجتمع الغربى الحديث (16).
يقول ديفيد لاين : "لقد دخل مصطلح ما بعد الحداثة الاستخدام العام بعد ظهور كتاب ليوتارد Lyotard "الوضع ما بعد الحداثى" ولكن بعد تأسيس هذا التيار التحق به كتاب أخرون - معظمهم فرنسيون - خلال الثمانينات، ورغم أن العديد من هؤلاء الكتاب تجاهلوا هذا المصطلح أو نفوه أو ابتعدوا عنه، إلا أنه بقى عالقا بأسمائهم ومن بينهم: جان بودريار Boudrilard وجاك دريدا Derrida وفوكو وليوتارد نفسه طبعا. ولا يمكن تجاهل كتاب أخرين مثل: جيل دولوز وجيانى فاتيمو Ginni Vattimo وريتشارد رورتى (17). ورغم أن هؤلاء الفلاسفة الذين يسميهم فيلب مانغ Philipp Meingue فلاسفة الاختلاف لا ينطون تحت لواء مدرسة توحدهم فأن هناك خيطا سريا يسرى ويجمع بينهم، فجميعهم فى خدمة الاختلاف والمغايرة ومن البديهى أن بين أعمالهم تمايزا لكنهم يلتقون من خلالها حول هم واحد يشغلهم هو تفتيت الفلسفة الغربية وتفكيكها إلى أبسط عناصرها ومن ثم إمكانية الخروج منها (18). وحسب هؤلاء فإن مسعى الفلسفة كان دائما ينحو إلى رد ما هو متعدد إلى الوحدة. واذا كانت الفلسفة على المستوى النظرى، تحجب التناقض لتبرز الوحدة، و على المستوى السياسى فهى دائما تبرر الوضع القائم، هى فلسفة رد للماثل والوحدة والدولة (19). بينما فلسفة الاختلاف تطمح إلى تغير بنية وعى الأفراد بأن تصدهم عن الرغبة فى الحنين إلى بناء وحدة شمولية وتضامنية، أنها فلسفة تحترز وتحتاط من كل ما هو مشروع توحيدى تكون الدولة هى التجسيم الفعلى له. وفلاسفة الاختلاف إذ يحترزون من مثل هذه المشاريع فلانهم يخافون أن يؤدى ذلك إلى الانغلاق (20).
وترد معظم - وربما كل - الدراسات أصول ما بعد الحداثة وفلسفة الاختلاف إلى نيتشه، الذى يمثل مفترق الطرق تفرعت عنه ما بعد الحداثة بخطيها، خط نظرية السلطة كما تطورت لدى فوكو مرورا بباتاى وخط نقدا الميتافيزيقا الذى ورثه هيدجر ودريدا، فهو يطبق جدل العقل لكى يفجر الغلاف العقلانى للحداثة (21).
ويتناول مادون ساروب Madon Sarup بعض التيارات بعد البنيوية فى الفصل الرابع من كتابه "مدخل تمهيدى إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ". حيث نجد أفكار نيتشه تعود بقوة وتشكل أصل أهم الاهتمامات فى أعمال دولوز وجاتارى وليوتارد . يقول: "لقد تأثر العديد من المفكرين تأثرا عميقا بفلسفة نيتشه، خاصة برفضها "وهم" الحقيقة والأفكار المتحجرة حول الدلالة واعتقادها بأرادة السطلة وتأكيدها على النزعة الديونسزية. تأثر فوكو بنيتشه فى أواخر الخمسينات وبدأ ينتقد التاريخانية والنزعة الإنسانية (22). كما ندد ليوتارد الذى كان مناضلا يساريا بالاتحاد السوفيتى (23). ورجع ساروب يلخص لنا فى نهاية هذا الفصل شجرة الانساب النيتشويه (24). فلو أمعنا النظر فى أعمال دولوز وجاتارى ودريدا وفوكو وليوتارد وغيرهم لتأكدنا من أثر فلسفة نيتشه، فهم أولا يشاطرونه العداء لفكرة النظام، ثانيا يرفضون نظرة هيجل للتاريخ كتقدم أو تطور، وثالثا يدركون الضغط المتزايد من أجل التشابه والتطابق وينتقدون هذا التيار. رابعا يكرسون الفرد ضد السياسى نتيجة اهتمامهم البالغ بالذاتية والرواية الصغيرة.
والحقيقة أننا بدأنا نفهم الكثير بالنسبة لأهمية نيتشه فى ما بعد الحداثة من خلال كتاب جيانى فاتيمو Vattimo "نهاية الحداثة" فهو يرى فى نيتشه ما يجمع بين فلاسفة وأفكار ما بعد الحداثة يقول: "أن التنظيرات المتفرقة وغير المترابطة لما بعد الحداثة لن تكون مفيدة فلسفيا إلا إذا ربطت ما بين اشكالية العود الإبدى النيتشويه وتجاوز الميتافيزيقا عند هيدجر (25). وهذا ما يشاطره فيه ديفيد لاين، الذى يؤكد أنه لكى يتسنى لنا فهم التيارات الأساسية فى الفكر ما بعد الحديث يجدر بنا أن نرجع قليلا إلى الوراء لنستجوب أولئك المفكرين الذين استبقوا ما بعد الحداثة. ومن دون شك أن أهم مفكر فى هذا الصدد هو نيتشه فهو بحق مفكر ما بعد حديث سابق لاوانه (26).
يصور نيتشه فى تاريخ الفلسفة باعتباره المقابل لكانط، وإذا استخدمنا لغة نيتشويه فهو يمثل الديونسيزية مقابل كانط الذى هو أقرب للروح الابولونية. والحقيقة أنه يمكن القول إذا كان نيتشه وهيدجر من المصادر الأساسية لفلسفة ما بعد الحداثة. فإنهما بدورهما اهتما بالفلسفة الكانطية. لقد كتب دولوز عن علاقة نيتشه وكانط فى كتابه "نيتشه والفلسفة" وأثار كل من كريستوفر وأنت واندزجى كليموفسكى إلى موقف نيتشه من كانط ؛ وهما يريا أن تحليل كانط للحكم فى علاقته بالاستطيقا بوصفها أحساس، يمكن أن يرى كاستباق لتحليل نيتشه للقوة من منظور الانفعالات المتصارعة. وإنهما يستخدمان على نحو متشابه شخصية العبقرى لسبراغوار الأفكار.
ويرى البعض أن نقد نيتشه للنزعة الإنسانية باعتبارها ميتافيزيقا ، وأنها بدورها عبارة عن أخلاق تصطنع قيما مزيفة للواقع.. إن هذا النقد يسير فى الاتجاه المعاكس تماما للتقليد الفلسفى الكانطى.. فبينما دعا كانط إلى ضرورة تحقيق أفكار الميتافيزيقا على أنها مجرد قيم لتأسيس الأخلاق ومسلمات الفكر العلمى، يرى نيتشه أن النقد الجذرى للفكر الميتافيزيقى برمته لا يتحقق إلا بفضح حقيقته التى هى تكمن فى أنه مجرد أخلاق.
وهيدجر أيضا قدم عدة دراسات عن كانط مثل: "كانط ومشكلة الميتافيزيقا" ، " السؤال عن الشىء "مقولة كانط عن الشىء" وحلقة بحث عن كتاب كانط " الدليل الوحيد الممكن على وجود الله" ، ويمكن ان نرى بينهما بعض التشابه ؛ وهو أن فلسفة كانط تدور حول إشكالية رئيسية ينشغل بها هو أيضا وهى أشكالية الوجود المتعين، وهى تشير إلى المكان الذى يتطور فيه الموجود ويمكن أن نصل إليه. لقد سعى هيدجر كما يرى كل من: وانت وكليموفسكى إلى أعادة صياغة سؤال كانط عن الأحكام التركيبية القبلية (27).
ويظهر الاهتمام المعاصر الكبير بصاحب الفلسفة النقدية . فى مجالات فلسفية متعددة ، نشير من بينها الى فلسفة الاخلاق المعاصرة خاصة الاخلاق النظرية للتعالى الدينى عند لفيناس ، واخلاق الحوار عند كارل – اوتوابل ، والاخلاق التواصلية عند هابرماس ، واخلاق الحضارة التقنية عند هانز يوناس واخلاق العدالة والانصاف عند جون رولز كما اوضحت جاكلين روس J.Rus فى كتابها الفكر الاخلاقى المعاصر La Penlee Ethique Contemporaime ودراستنا مقدمة فى الفكر الاخلاقى المعاصر .
ويمكن الاشارة الى العناية التى يوليها فيلسوفا الهيرمينوطيقا هانز جادامر و بول ريكور للفيلسوف الالمانى او الموقف النقدى الذى نتخذه بعض التيارات المعاصرة خاصة ما يسمى بالفلسفة النسوية. بالإضافة إلى حضور في فلسفات : إمانويل ليفيناس ، وكارل أوتوابل ، وهانز يوناس ، وجون رولز.
وسوف نتوقف فى الفقرات التالية عند قراءة كل من: جيل دولوز وفوكو وليوتارد ودريدا ، الذين أفرد كل منهم عمل أو أكثر حول كانط قراءة وإعادة تفسير فى بعض جوانب الفلسفة النقدية التى لم تلقى نفس الاهتمام من غيرهم من المفكرين السابقين، الذين توقفوا أمام جانبين فقط فى فلسفة كانط هما: نظرية المعرفة أو نقد العقل النظرى الخالص ونظرية الواجب أو نقد العقل العملى الخالص (28).
أولاً: جيل دولوز وفلسفة كانط النقدية:
نتناول فى هذا القسم الأول من البحث قراءة جيل دولوز لفلسفة كانط والاهتمام الكبير الذى خصصه لمفهوم النقد، فى كتبه النقدية الثلاثة خاصة كما يتجلى فى "نقد ملكة الحكم". حيث تناوله فى كتابه "كانط والفلسفة النقدية" وفى العديد من كتبه الأخرى. وسوف نشير فى البداية إلى أهم ملامح فلسفته لنوضح مكانة كانط فى هذا السياق.
لقد عرف دولوز باعتباره فيلسوف الاختلاف وصارت عبارته أن الفلسفة هى أبداع التصورات هى التعريف الغالب على فلسفته (29). وقد مر تفكيره كما يخبرنا بمراحل متعددة. يقول فى حوار أجراه معه ريمون بيلور وفرانسوا إوالد فى المجلة الأدبية الفرنسية عام 1988 "يمكننى الحديث عن ثلاث مراحل، لقد بدأت بتأليف كتب فى تاريخ الفلسفة حيث الكتاب الذين أهتممت بهم ، كان يجمعهم شىء مشترك". كتب عن هيوم كتابين، واسبينوزا ومشكلة التعبير، ونيتشه كتابين، وعن البرجسونية و"كانط وفلسفته النقدية" 1963. وسعى فى المرحلة الثانية لبناء فلسفته الخاصة التى تتضمن على سبيل المثال: "الاختلاف والتكرار" 1968 "ومنطق المعنى" 1969 ثم "أوديب - مضادا" و"ألف سطح" بالاشتراك مع فيليكس جاتارى. وانصب اهتمامه فى المرحلة الثالثة على الأدب عموما حيث كتب على سبيل المثال "مارسيل بروست والعلاقات" و"كافكا" وعن فن الرسم مثل "بيكن: منطق الحساسية" وعن السينما، ثم عودة لتاريخ الفلسفة حيث كتب عن "فوكو" و"الثنية ليبنتز والباروك" . يقول: "أما كتابى حول كانط فهو مختلف... لقد اشتغلت عليه كما لو كنت أشتغل على عدو بهدف معرفة كيف يعمل، كيف تعمل أجهزته" (30). وفى هذا السياق يرى كريستوفر نوريس Ch. Norris أن دولوز فى دراسته عن كانط، يقدم تناقضات العقل المحض والعملى بطريقة تدرك المراد (الكانطى) المنطقى منها، حتى أثناء الكشف عن سقطاتها المتعلقة بالبنية (31).
إلا أننا نجد تفسيرا آخر لموقف دولوز فى تأريخه للفلسفة يرى أن دولوز يقف أمام تفردات الفلاسفة، وإبراز هذه التفردات ، هو وقوف عند الحدث داخل الفكر، على هذا النحو ينبغى أن نفهم التنقيب الذى يمارسه دولوز فى تاريخ الفلسفة التقليدى. يصر دولوز على الاهتمام بهؤلاء لا بحثا عن نماذج فكرية جديدة، وإنما سعيا وراء "ضبط الفكر أثناء عمله عند المفكر" (32) راجع كتاب الان باديو Alain Bediau عن (دولوز)، هاشيت Hachette, Paris 1997 ، الذى يحدد الوضعية التى تحتلها فلسفة دولوز فى الفكر الفلسفى المعاصر وما أثارته من جدل وذلك لخصوصية السؤال الفلسفى عنده. فهو يمارس فلسفة ترفض كل تصنيف وكل نسق مغلق وكل أنتماء فلسفى أو أندراج ضمن التيارات الفلسفية السائدة. فهو يبنى فلسفة ذات توجه حيوى وذات توجه ديموقراطى. ويذهب بادبو خلافا للعديد من التأويلات التى تعتبر فلسفة دولوز فلسفة للمتعدد وللرغبة، يرى أنها تكمن فى كونها تتحرك فى تجاه فلسفة التأسيس لقدوم الواحد وهى عنده فلسفة نسقية مفتوحة. أنظر إبراهيم عمايريه: دولوز تأليف باديو، مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد 2 - 3 ص 124 - 128 ويهمنا الأشارة إلى أهتمام دولوز بالفلسفة العربية الإسلامية خاصة ابن سينا، ويمكننا أن نقول.. أن الفلسفة مع دولوز تعود إلى قضاياها ومناهجها الخاصة حيث يرى دولوز نفسه دائما فيلسوفا كلاسيكيا ، ويأتى التجديد للفلسفة من نوعية الأسئلة التى نطرحها عليها والقلقة بهموم العصر (33).
أن المشروع الدولوزى يبتغى هذه الفكرة القائلة بأن ثمة تاريخا وتواتر زمنيا وهذا يعنى فيما يرى فيليب مانغ، الإطاحة بالأسس التى تقوم عليها صروح الحقول المعرفية للعلوم الإنسانية. وكتاب "الاختلاف والتكرار" عبارة عن كتاب فى المنهج الجديد. وهو لا يقدم تصورا جديدا للعالم ولاخلاصة لمجمل المعارف القائمة والمتداولة حاليا. أنه المنهج الجديد لما بعد الحداثة، ابستمولوجيا جديدة تستجيب لأوضاع المعارف الراهنة، يهدف إلى خلق جسور وصل بين حقول معرفية منعزلة (34).
وسوف نعرض فى أربع فقرات أفكار كانط كما جاءت عند دولوز فى كتاب "الاختلاف والتكرار"، والعلاقة بين كانط ونيتشه كما يراها دولوز فى "نيتشه والفلسفة"، وكتاب دولوز عن "فلسفة كانط النقدية"، ثم مقارنته بين كانط وميشيل فوكو تمهيدا للقسم التالى من البحث عن فوكو وكانط.
1- يعد "الاختلاف والتكرار" أول كتاب ضخم من تأليف دولوز، وهو ليس فقط تتويجا لمساره التعليمى فى تلك السنوات التى خصصها لتدريس الفلسفة، أنه عمل يدشن فلسفة جديدة، هى فلسفة الاختلاف، ويعتبر مرحلة حاسمة فى مسار دولوز وهمزة الوصل بين الأعمال التى سبقت والأعمال التى ستتلوها، كما يوضح فيليب مانغ. إن الحدس الذى أرتكز عليه، هو القول بإن الكائن تعدد واختلاف وتنوع بحيث يمكن القول أن فلسفة دولوز هى قبل كل شىء فلسفة "الاختلاف". ينتقد دولوز التمثل La Representation فالتمثل ليس قادرا على استيعاب المختلف ؛ لأنه يعمل وفقا لأليات ذهنية مبنية على ضرورة مبدأ الهوية، وتاريخ الفلسفة كله محكوم بهذا الخطأ أو تاريخ هذا الخطأ، ويمكن القول أن الموضوع الحقيقى لكتاب "الاختلاف والتكرار" يتمحور حول الإطاحة بآلية التمثل (35) ليس ثمة تكرار حقيقى عند دولوز إلا وهو فى خدمة التمايز، أو فى صالح "الاختلاف" يفلت به من حيز التكرار. لابد من القول بأن ثمة "اختلافات" تخرج عن حيز عملية التمثل التى لا ترى إلا الموضوع - وهى اختلافات كما يرى مانغ تفلت من شمولية المفهوم - اختلافات متجددة فى صلب الواحد.
ولو تابعنا تلخيص فيليب مانغ لعمل دولوز لوجدنا الفيلسوف يذكر فى بداية كتابه حالات التكرار الحقيقى التى تنتسب إلى ميادين متعددة: الفيزياء والأخلاق والآداب والتاريخ. يهمنا منها ما يذكره فى مجال القانون الأخلاقى، حيث يرى أن كانط (إذا صرفنا النظر عن التكرار الذى يحدث فى الطبيعة) لا يحصرنا فى حيز جديد من الشمولية والعمومية والمماثلة بل يقترح مقياس الخير ومقياس الواجب، أى هو يقترح موضوعا يظل التشريع الأخلاقى يردد أنموذجه (36).
يتناول دولوز فى الفصل الثانى من كتابه ما يسميه الخلاصة التأليفية الزمانية، ويشير فى الخلاصة الأولى للزمن (الحاضر الحى، والعادة) إلى مفارقة تقول بعدم وجود التكرار دون أن يصاحب ذلك أى نوع من الذاتية، ويعرض لإطروحة هيوم عن العادة حيث يربط الخيال بين الحالات المتعاقبة، ويسمى ذلك الخلاصة التأليفية السالبة. وينتقد كانط فى هذا السياق حيث يرد كانط عملية التأليف Synthese إلى طاقة إيجابية فاعلة. فهذه الخلاصة تنبع داخل الفكر الذى يسبق كل عملية تذكر وكل عملية تحليل (37). ولأنه كما يرى فى الخلاصة التأليفية الثالثة أن شكل الزمن لابد أن يكون فى ثنايا الفكر، لذلك فهو كائن فى قلب الخلاصة التأليفية الفاعلة التى تقدم نفسها على أنها معطى أولى ضمن مسار الكوجيتو (أنا أفكر) ولما هى هكذا؟، هنا يسجل دولوز الإضافة التى حققها كانط خلال نقده الكوجيتو الديكارتى. (38).
وتسرى أفكار كانط فى سياق "الاختلاف والتكرار" تدعيما لرأى أو تأييدا لفكرة أو نقدا لأخرى. فهو يرى أن ميزة كانط تكمن فى أنه ساوى بين ما هو "فكرة" وما هو "أشكالى" فعن طريق الإشكالى تتموضع الفكرة، إلا أن الفكرة عند كانط انحصرت فى مجال عمومية المفهوم. وفى حديثه عن مشكلة نشأة الأفكار وأصلها ومشكلة واقعيتها وتجسدها فى حيز الفعل. يرى فيما جاء تحت عنوان "من أين تأتى الأفكار؟" إن كانط قد حدد نشوء الأفكار الإشكالية فأتخذ من العقل تلك الملكة المتميزة موضوعا لها. غير أن دولوز يعترض على ذلك مبينا أن الفكر من الملكات جميعا. فالفكرة الإشكالى هو نوع من القضية الضرورية Apodictiqe التى تتضمن حتميتها فى ذاتها (39).
2- ويتناول دولوز كانط فى أربعة مواضع من كتابه "نيتشه والفلسفة". نجد ذلك فى نهاية الفقرة السادسة من الفصل الثانى ، حيث يبين موقف نيتشه حيال كانط فى الفقرات: الثامنة والتاسعة والعاشرة من الفصل الثالث عن النقد. هى على التوالى نيتشه وكانط من وجهة نظر المبادئ، تحقيق النقد، نيتشه وكانط من وجهة نظر النتائج.
لا يوجد لدى نيتشه فيما يرى دولوز نسب كانطى بل هنالك خصومة نصف معلنة ونصف مخفية بسبب قصور نقده.. لقد وجد نيتشه فى العود الإبدى وإرادة القوة تغيرا جذريا للكانطية وإعادة اختراع للنقد الذى خانه كانط فى الوقت ذاته الذى تصوره فيه أستئنافا للمشروع النقدى على أسس جديدة ومع مفاهيم جديدة (40) ويبين فى حديثه عن مخطط جينالوجيا الأخلاق ميل نيتشه إلى الإشارة إلى نقض تصور كانط للتعارضات Antinomies ، ويبين نيتشه أن كانط لم يفهم ينبوعها ولا امتدادها الحقيقى حيث مصدر التعارض هو الإحساس بالخطأ (كما يقول فى القسم الثانى من الجينالوجيا) وهو يعبر عن نفسه كتعارض بين الأخلاق والحياة (إرادة القوة، القسم الأول 305).
لقد أراد نيتشه فى الجينالوجيا إعادة كتابة نقد العقل الخالص، فهو يقدر - كما يقول دولوز - أن الفكرة النقدية تتحد مع الفلسفة ، لكن كانط أخطأ بالضبط هذه الفكرة وأفسدها ليس فقط فى التطبيق بل من المبدأ. ويرى أن أمر نيتشه بالنسبة لكانط كأمر ماركس بالنسبة لهيجل ، يتعلق بالنسبة لنيتشه بمادة وضع النقد على قدميه (41).
لم يفعل كانط سوى أن دفع إلى الحد الأقصى تصورا قديما جدا للنقد كقوة يجب أن تتناول كل الطموحات إلى المعرفة والحقيقة ، ولكن ليس بحد ذاتها ، أنه ليست هنالك أوهام معرفة بل أن المعرفة هى بالذات وهم: المعرفة خطأ، لا بل هى أسوأ من ذلك أنها تزوير" (42).
إن عبقرية كانط فى "نقد العقل الخالص" فى كونه تصور نقدا محايثا Immanete نقدا للعقل بواسطة العقل ليس بواسطة الشعور أو بواسطة التجربة أو أى هيئة خارجية أيا كانت ، ولم يكن المنتقد هو الآخر خارج العقل، ويرى أن هذا هو التناقض الكانطى، أن يجعل من العقل المحكمة والمتهم فى الوقت ذاته. لقد كانت تنقص كانط طريقة تتيح الحكم على العقل من الداخل من دون أن يعهد إليه بمهمة أن يكون قاضيا لذاته، والنتيجة أن كانط لا يحقق نقده الداخلى.. أن الفلسفة الترنسندتنالية تكتشف شروطا تبقى خارجية بالنسبة للشروط والمبادئ الصورية ، هى مبادئ شرط، لا مبادئ أصل تكوينى داخلى، فالمطلوب على طريقة نيتشه ودولوز أصلا تكوينيا للعقل، واصلا تكوينيا للإدراك ومقولاته. ويرى دولوز أننا نجد عند نيتشه محل المبادئ الصورية الجينالوجيا. وأن إدراك القوة كمبدأ قادر على تحقيق النقد الداخلى (43).
ويلخص دولوز التعارض بين التصور النيتشوى والتصور الكانطى للنقد فى عدة نقاط أهمها: أنه ليس العقل المشرع الكانطى بل عالم الجينالوجيا هو المشرع الحقيقى. أن هدف النقد ليس غايات الإنسان أو العقل بل الإنسان الاسمى الإنسان المتجاوز، فالأمر لا يتعلق بالتبرير بل بالشعور، صورة مختلفة، حساسية أخرى (44). وأهتمام دولوز بتعريف ووظيفة الملكات يشغله فى كتابه "فلسفة كانط النقدية" موضوع الفقرة القادمة.
وتظهر أهمية كانط بالنسبة لدولوز فى تخصيصه كتاب حول "فلسفة كانط النقدية" يظهر فيه تطور النقد من العقل النظرى إلى العملى حتى يكتمل فى ملكة الحكم، فالعمل يتكون من مدخل وخاتمة وفصول ثلاثة (45). فهو يبدأ فى المدخل بتعريف العقل عند كانط ويذكر تحديده للفلسفة على أنها "علم العلاقة بين كل المعارف والغايات الأساسية للعقل البشرى" للتأكيد على الغائية عند كانط، مقارنة بين مكانته فى فلسفته من جانب، وفى التجريبية والعقلانية الدوجماطيقية من جانب فالتجريبيين يرون الغائية فى الطبيعة وكانط يرجعها للعقل والعقلانية السابقة عليه تقر بالغايات لكن كشىء خارجى وأعلى يجعل العقل ينشد وجود، وخير مطلق بينما يرى كانط مقابل هؤلاء أن الغايات موجودة فى العقل.
وينتقل بعد ذلك للحديث عن الملكات محددا معنيين للملكة Faculte ، فهى بالمعنى الأول: كل تصور فى علاقة مع شىء آخر، فهناك علاقة وفاق وتطابق، ملكة المعرفة، وصلة السببية، وملكة الرغبة. ويتناول ملكة المعرفة العليا حيث يعرض للعلاقة بين الملكات وهل لها ترتيب أدنى وأعلى. ليبين أن نقد العقل النظرى تأمل فى الملكة العليا للمعرفة بينما يختص نقد العقل العلمى بالملكة العليا للرغبة، ويعنى نقد الحكم بالملكة العليا للخيال. والمعنى الثانى للملكة أن تكون مصدر نوعى للتصورات يقول: "تحيل الملكة فى المعنى الأول إلى العلاقات المتنوعة للتصور على وجه العموم، فى المعنى الثانى على مصدر نوعى خاص للتصورات" (46). وهى فى هذا المعنى الثانى تتعدد التصورات، ويذكر ثلاثة أنواع للملكات بهذا المعنى وهى: الخيال والذهن والعقل، ويطرح مسألة العلاقة بين المعنيين فى نهاية مدخله ليصل إلى حلها فى نهاية عمله. ويلاحظ أن ما شغله فى المدخل هو نفس ما شغله فى كتاب الاختلاف والتكرار.
ويتوقف فى الفصل الأول عند العلاقة بين الملكات فى النقد الأول (العقل النظرى الخالص) يحلل فى الفقرة الأولى العلاقة بين "القبلى" و"الترانسندنتالى"، حيث يشير القبلى إلى تصورات تنشأ من التجربة أما الترانسندنتالى فهو المبدأ الذى تخضع بمقتضاه التجربة لتصوراتنا الأولية. ثم يعرض لمفهوم الثورة الكوبرنيقية عند كانط التى يخضع فيها الموضوع للذات، ويتوقف عند دور الملكات الثلاث فى عملية المعرفة. ويحذر من تداخل عمل ملكة من الملكات فى وظيفة أخرى.
ويدور الفصل الثانى على العلاقة بين الملكات فى "نقد العقل العملى" ويخصص الفقرة الأولى للعقل المشرع حيث هو المسئول عن التشريع الكلى الذى يتفق والقانون الأخلاقى الضرورى ويقارن فى ختام الفصل بين العقلين النظرى والعملى على مستوى توجه الاهتمام فى كل منهما، موضحا اختلافهما فمجال العقل النظرى الظواهر بينما يدور العقل العملى على الأشياء فى ذاتها.
ويبدأ الفصل الثالث والأخير - عن العلاقة بين الملكات فى نقد ملكة الحكم" - بسؤال، هو هل هناك شكل اسمى للعاطفة، بمعنى هل لدينا تصورات تحدد قبليا حالات اللذة والألم؟ (47) والإجابة أن هذه الحالات لا تعرف إلا بالتجربة والملكة العليا للعاطفة (الشعور) مصدر الشروط الذاتية لنشاط الملكات الأخرى. ويمكن رصد الشكل الأعلى للشعور فى الحكم بالجمال حيث تنسجم المخيلة مع ملكة الفهم ويتفاعلا عضويا ويتداخل العقل فى الحكم بالجمال حيث تنسجم المخيلة مع ملكة الفهم ويتفاعلا عضويا ويتداخل العقل فى الحكم بالجليل Sublime ، فالجليل (السامى) يؤدى إلى علاقة من نوع خاص بين العقل والمخيلة. ويفيض دولوز فى بيان موقف كانط من ملكة الحكم، والطبيعة والفن على مستوى الغائية. فالاستطيقا غائية ولكن لا تهدف إلى أية غاية محددة بل أنها تمهد للغائية فى الطبيعة (48). وبعد تحليل كتب النقد الثلاثة، يخصص دولوز الخاتمة للحديث عن غايات العقل، متناولا على التوالى، مذهب الملكات، مذهب الغايات، التاريخ والتحقق. يرى فى الفقرة الأولى (مذهب الملكات) أن الكتب النقدية الثلاثة تقدم نظاما حقيقيا للتبادل فنقد العقل النظرى ونقد العقل العملى يعرضان علاقات الملكات. ثم يعيد فى الفقرة الثانية أهم ما ذكره بالنسبة للغائية، ويتساءل فى الفقرة الثالثة كيف يمكن للإنسان الذى لا يمثل هدفا نهائيا إلا فى وجوده فوق المحسوس، أن يكون غاية نهائية للطبيعة الحسية؟ والإجابة أن الحرية هى الوسيلة لتحقيق ذلك. وهذا ما سيتناوله فوكو فى تحليله لنصوص كانط ما التنوير؟ ما الثورة؟ كما سيمر بنا فى القسم التالى.
ومن الواضح أن الغاية من تحليلات دولوز هى بيان كيفية وصول كانط للنقد وغايته نقد الحكم، والدليل على ذلك القضايا التى طرحها دولوز فى بداية كتابه وفى سياقه وحتى الخاتمة هى قضايا الغائية والعلاقة بين الملكات (49).
لقد كان موضوع دولوز الرئيسى أن يوضح بعض المشكلات التى تنشأ بسبب أن كانط يجهد نفسه ليحكم دعاوى الملكات العقلية المتنافسة التى تمثل مشهدا متخيلا لقاعة محكمة،قاعة محكمة تعمل - وفقا لدولوز - على طريقة منصب رئيس جلسة دائرى معين لكى يمنع أى صوت سلطة مفرد (مضيع للحرية) من ممارسة قوة مطلقة، وبالتالى يحول دون تقويض تشاركية الخطاب الحر والعادل قبل أى قانون. وهكذا نفهم الصرح المفاهيمى الكامل فى النقد الكانطى - إبستمولوجياه وأخلاقياته على السواء - بوصفه نسخة عاكسة لـ "برلمان" ملكات عقلية ديمقراطى ليبرالى، يشيد لضمان سيادة العقل.
ويطور دريدا - الذى سنخصص لاهتمامه بكانط فقرة قادمة - هذا الفكرة، على نحو واضح تماما فى نصوصه الحديثة عن سياسات المعرفة (50) المهم فى هذه النصوص هو إصرارها على أن هذه الأسئلة لا تزال موضع تفكير فيما يتعلق بتأثيراتها الاجتماعية والايديولوجية فى اليوم الحاضر. مثلما الحال مع دولوز عندما ألف كتابه عن كانط. وحتى يكون دولوز مقنعا فقد عرض تعليقا كانطيا بخصوص المشكلات والتناقضات الموجودة فى عملية تأسيس برلمان معرفة. إلا أنه فى كتاباته الأخيرة (وعلى الأخص أوديب مضادا) يتخاصم تماما مع نماذج العقل التنويرى. ويتبنى أسلوب الخطاب ما بعد البنيوى (51). أنه باختصار يتخلى عن النقد الداخلى للمفاهيم والمقولات الكنطية من أجل لغة تحتفى بانبثاقها فى عصر يفهم فيه العقل نفسه بوصفه قوة كبت اجتماعى. ومثل فوكو يساوى دولوز المعرفة بالقوة ويرفض أى نوع من النقد الفلسفى الذى يستقى أصله من وجهة نظر العقل التنويرى (52).
3- تناول دولوز كانط فى كتابه "المعرفة والسلطة" فى تحليله لأركيولوجيا فوكو المعرفية تحت عنوان "الأبنية أو التشكيلات التاريخية" (ما يرى وما يعبر عنه). وهو يرى أن الكلام والرؤية أن العبارات والرؤى عناصر خالصة وشروط قبلية ضمنها تجد كل الأفكار صيغتها فى لحظة معينة، كما تتكشف السير وألوان السلوك. ويشكل هذا البحث عن الشروط نوعا من الكانطية الخاصة بفوكو" (53).
ويقارن دولوز بين كانط وفوكو موضحا التمايزات بينهما. فالشروط بالنسبة لفوكو شروط التجربة الواقعية، وليست شروط إمكان (فالعبارة عنده تفترض متنا معينا) توجد بجانب الموضوع، وفى جانب التشكيلية التاريخية، وليس فى جانب ذات كلية (القبلى - عنده - تاريخى) وسواء كان هذا أو ذاك نحن أمام أشكال خارجية برانية. ويدلل على كانطية فوكو بالقول أن الرؤى تشكل مع شروطها قابلية تلقى وتأثر... وهو نفس ما نجده فى الفكر الكانطى حيث أن عفوية الأنا تمارس ذاتها على كائنات متلقية تتمثلها (أى تتمثل تلك العفوية) بالضرورة كأخر، أما لدى فوكو، فإن عفوية الفهم أو الكوجيتو تنسحب تاركة المجال للرؤية (باعتبارها) شكل جديد للمكان - الزمان (54).
يرى دولوز أن كانط نقل الثنائية الديكارتية، الفكر والامتداد إلى ثنائية بين ملكتى الحساسية والفهم. وهذا يعنى أن كانط لم يبحث عن تطابق بين الذات والموضوع، بل بحث - كما رأينا - فى ملكات الذهن بوصفها منظومة علاقات متفتحة هى محصلة نشاط عملى للإنسان يتغيا الحرية والجمال. إن حل الإشكالية التى تثيرها الثنائية بين الحساسية والفهم أو قل التجربة والعقل أو على الأقل زحزحتها تتم عند فوكو، وذلك نحو ثنائية مغايرة ليست بين ملكتين معرفتين لكن وفق لتعبير دولوز بين نمطى وجود هما: العبارة والرؤية. فإذا كانت أصالة كانط تتمثل فى زحزحة إشكالية ديكارت من المستوى السيكولوجى (تمثل الذات لذاتها) إلى مستواها الابستمولوجى والبحث عن شروط الإمكان فوجه الجدة عند فوكو هو تحويل الثنائية الكانطية من المستوى الابستمولوجى إلى المستوى الانطولوجى، بحيث يتركز الاهتمام على الكينونة لا على الحقيقة، على الإنسان لا على الطبيعة (55) معنى هذا أن شروط الإمكان ترجع عند كانط إلى الذهن المستقل عن التجربة فى حين أنها لدى فوكو فى "الكلمات والأشياء" مصدرها التجربة ذاتها، وهى ذات طابع تاريخى، أى أن القبلى فى نظر فوكو ذو طابع تاريخى. بالإضافة إلى أن الحقيقة القبلية لا تشكل عند فوكو هوية جاهزة سابقة على ممارستها،ولا تشكل بذاتها مصدرا ليقين معرفى. وإنما هى ذات طابع ملتبس ومتناقض، هى موضع أو حيز للممارسة تنتج وتنتج. ومعنى كونها تنتج فيما يبين على حرب توضيحا لدولوز أن ثمة ما يؤسسها فى الأبنية والتشكيلات التاريخية التى هى بمثابة قبليات تسبق قبليات العقل الخالص (56).
وبيانا للاختلافات بين كانط وفوكو يشير البعض، إلى أننا لسنا بإزاء محاولته لاستبدال المتعال الذاتى بمتعال تاريخى أو تجريبى أو أى متعال أخر كما يظن، وإنما الأمر يتعلق بطريقة جديدة فى التفكير. فإذا كان كانط قد جعل الأشياء تدور حول العقل بدلا من أن يدور العقل عليها، فإن لدى فوكو لا يدور شىء على شىء، بل ثمة أشياء يتم تداولها عبر رؤيتها والكلام عليها دون الإحالة إلى ذات مرجعية أو مرجعية ثابتة (57). ويقول: "كان للانثربولوجيا دوراً أساسى فى الفكر الحديث ومازلنا إلى حد بعيد غير متخلين عنها فقد أصبحت ضرورية منذ أن فقد التمثل قدرته على تحديد لعبة تركيباته وتحللاته بمفرده كان ينبغى أن تتوافر التركيب التجريبى خارج سيادة (الأنا افكر).. هذا ما سبق لكانط أن بحث عنه فى المنطق عندما أضاف إلى الأسئلة الثلاثة التقليدية تساؤلا أخيرا: فإذا كانت الأسئلة الثلاثة ماذا باستطاعتى أن أعرف؟ ماذا يتوجب على أن أعمل؟ ماذا يمكننى أن أفعل؟ مرتبط بسؤال رابع ما هو الإنسان West ist der men? 280 وإذا كان كانط قد أيقظ فى نقده الفكر من سباته العقائدى فإن نقده ينهض على سبات أخر هو السبات الأنثربولوجى الذى سعى فوكو كما يخبرنا فى الكلمات والأشياء إلى إيقاظ الفكر منه.
وإذا كان تناول دولوز للفلسفة الكانطية سواء فى "الاختلاف والتكرار" أو "نيتشه والفلسفة" أو فى كتابه عن "كانط والفلسفة النقدية" يهتم أساسا بالنقد ويتوفر على النقد فى ملكة الحكم فهو نفس ما يقوم به فى تحليله للعلاقة بين فوكو وكانط. وإن كان لم يتوقف طويلا كما سنلاحظ عند ما كتبه فوكو فيما بعد عن كانط والثورة فإن هذا يجعلنا نتوقف عند كانطى معاصر هو ميشيل فوكو الذى أعلن "نحن جميعا كانطيون (58). والذى يتابعه فى التأكيد على كانطيته عدد من الباحثين فى أفكاره (59).
ثانياً : فوكو وسؤال كانط حول التنوير :
شغل فوكو منذ تخرجه بفلسفة كانط وكانت رسالته التكميلية للدكتوراه التي أعدها تحت إشراف هيبوليت حول كانط ، دراسة وترجمة لمبحث الأنثربولوجيا وقد نشر ترجمته فيما بعد في دار فران Vrin . ويمكن القول أن مشروع فوكو الفلسفى يهدف إلى نقد الحداثة الغربية التى تأسست بعد الثورة الفرنسية، كما هدف إلى نقد فلسفة التنوير التى ادت إلى أشعال الثورة الفرنسية ومهدت لها الطريق.. لكنه لا يكتفى بأدانة الجوانب السلبية للحداثة الغربية، وأنما يلجأ إلى التحليل التاريخى الاركيولوجى لكى يبين الكيفية التى انبنت عليها هذه الحضارة وبالتالى يسهل عليه النقد والتغير والتعديل (60).
يعلن فوكو انتمائه للنقد الكانطى، ويستخدم اصطلاحات كانط، كما فى الفقرة الرابعة من الفصل التاسع من كتابه "الكلمات والأشياء" مثل: التجريبى والترنسندتنالى، والسبات الانثربولوجى موضحا أن البحث عن طبيعة تاريخ المعرفة حين يسعى إلى مطابقة البعد الذاتى للنقد ، على مضامين تجريبية، يستلزم استخدام نوع من النقد (61) لقد أسس كانط فيما يرى فوكو الركنين الاساسيين للتراث النقدى اللذين تقاسما الفلسفة الحديثة. أنه وضع فى عمله النقدى دعائم هذا التراث الفلسفى الذى يطرح السؤال حول الشروط التى تجعل المعرفة الحقة ممكنة، ويؤكد أن جانبا من الفلسفة الحديثة قد تولد وتطور من كانط فى شكل تحليل للحقيقة.
يرى فوكو أنه يوجد فى الفلسفة الحديثة / المعاصرة سؤال جديد، من نمط أخر على صيغة أخرى من الاستفهام ، وهى التى تولدت تحديدا فى السؤال عن عصر التنوير، وفى النص حول الثورة، وهذا التراث النقدى الجديد يطرح السؤال: ما هى انيتنا؟ وما هو المجال الحالى للتجارب الممكنة؟ الأمر لا يتعلق بتحليله الحقيقة، بل بما يسميه فوكو انطولوجيا الحاضر. انطولوجيتنا نحن، وعلى هذا نحن أمام اختيارين - فيما يقول - الأول: أن نختار فلسفة نقدية تأتى إلينا على أنها فلسفة تحليلية تتناول الحقيقة بصفة عامة، وأما أن نفضل فكرا نقديا يأخذ شكل انطولوجيا "نحن ذاتنا" أى أنطولوجيا الانية. وقد أسس هذا الصنف من الفلسفة (الاختيار الثانى) بدأ من هيجل إلى مدرسة فرانكفورت مرورا بنيتشه وماكس فيبر شكلا من التفكير حاولت أن أعمل داخله (62).
تحدث فوكو عام 1983 فى الكوليج دى فرانس - ريما لأول مرة عن موضوع يتعلق بموقف الفيلسوف من أحداث عصره، أو مجريات الحياة السياسية وقد ركز اهتمامه على موقف أيمانويل كانط من هذه المسألة بشكل خاص، وحلل نصه الصعب والغامض ما هو التنوير؟ وهو يعتبره أول نص فى تاريخ الفلسفة يطرح مشكلة الساعة ويعتبر الحاضر جديرا بالتأمل الفلسفى، بتفكير الفيلسوف (63) يرى فوكو فى نص كانط عن عصر التنوير نوع أخر من الأسئلة فى مجال التفكير الفلسفى حيث يطرح النص مسألة الغائية الكامنة فى سياق التاريخ ، فالمسألة المطروحة لأول مرة هى مسألة الحاضر، أى السؤال عن الانية: ما الذى يحدث اليوم؟ وماذا يحدث الأن؟ وما هو الأن الذى نوجد نحن وغيرنا فيه؟ أن السؤال الذى الزم كانط الإجابة يتعلق بهوية هذا الحاضر. وقبل كل شىء بتحديد عنصر معين من الحاضر لابد من التعرف عليه وتميزه بين العناصر الأخرى، حتى يصبح السؤال: ما الذى يشكل فى الحاضر الأن، المعنى، تفكير فلسفى ما؟ أن الجواب الذى يحاول أن يقدمه كانط - فيما يبين فوكو - يعمد إلى بيان الميزة التى يحملها هذا العنصر، والتى تجعل منه المؤشر لسياق يضم الفكر والمعرفة والفلسفة. يقول: "أننا نلمح فى نص كانط مسألة الحاضر كحدث فلسفى ينتمى إليه الفيلسوف الذى يتحدث عنه، فنحن نشاهد فى نص التنوير - لأول مرة - الفلسفة تعمل على صياغة أشكالية لانيتها النظرية، فهى تستنطق هذه الانية كحدث لابد من الافصاح عن معناه وعن قيمته وعن تفرده الفلسفى" (64). ومن هنا يرى فرانسوا اوالد فى دراسته بالمجلة الأدبية الفرنسية (الماجازين ليترير) "نهاية عالم" فى العدد المخصص لفوكو 207 مايو 1984 أن عمل فوكو هو تطبيق للشعار الذى أطلقه كانط على عصر التنوير "لتكن لديك الشجاعة فى استخدام عقلك بنفسك" (65) هذا يعنى أننا نرى مع نص كانط ظهور صيغة جديدة فى طرح مسألة الحداثة. حيث نشهد فى مسألة عصر التنوير وفق فوكو أولى المظاهر لمولد طريقة معينة فى تعاطى الفلسفة، لأن من أهم وظائف الفلسفة الحديثة تساؤلها عن أنيتها (66).
يتتبع فوكو بمنهجه الجينالوجى مسألة الحداثة، ويشدد على أن كانط لم ينس فيما بعد المسألة المتعلقة بالتنوير، التى عالجها 1784 حين أجاب عن سؤال طرح عليه من الخارج، فهو يعيد محاولة الإجابة عليه ضمن ما يقوله عن حدث لم ينفك يتساءل عن ذاته، يعنى الثورة الفرنسية، ففى سنة 1897 سيعطى كانط إجابة ما يمكن أن نعتبره تتمة لنص 1784 سيجيب عن سؤال أخر طرحته عليه الأحداث هذا السؤال هو "ما هى الثورة"؟ (67). ويشير فوكو وفق جينالوجيته إلى كتاب "نزاع الكليات" وهو مجموعة رسائل حول العلاقة القائمة بين مختلف الكليات المكونة للجامعة، خاصة الرسالة الثانية المتعلقة بالنزاع بين كليتى الفلسفة والحقوق، وقد حكم مجال العلاقات بين الفلسفة والحقوق آنذاك سؤال هل هل هناك تقدم مستمر للجنس البشرى؟" ولكى يجب كانط على هذا السؤال عمد فى الفقرة الخامسة من هذه الرسالة إلى أثبات الاستدلال التالى