ألم يان للفكر الإسلامي عامة و ذاك الناطق منه بالعربية على وجه الخصوص أن يقك عنه أغلال التبعية و التقليد من حيث مضمونه و رؤاه ؟ أما آن الأوان بعد من أن يتخلص من التجزيء و سوء التقويم من حيث منهجه و مفاهيمه ؟ ألم يحن الوقت بعد الذي نتخلص فيه من الشعور بالدونية اتجاه فكر الغير ، و أن نقتات على فضلات موائده فيما لا فائدة فيه و بأسلوب لا يرجى منه تفاعل أو تقويم ؟ أليس لنا الحق في الاختلاف الفلسفي و المزايلة الحضارية و الإبداع الثقافي و التأصيل المنهاجي ؟
أسئلة نرتبها لفحص دعاوى فقيه الفلسفة المغربي الدكتور طه عبد الرحمان ( شافاه الله و ابنته ) ، و هي بمثابة مقدمات تحمل هم بناء مشروع ليقظة فلسفية عميقة و قومة فكرية أصيلة تتوسل بالتكامل المنهاجي الواصل بين الفلسفة و باقي العلوم و بين الفلسفة و مجالها التداولي الذي تريد أن تحيى فيه ، و بين الفلسفة و السلوك الأخلاقي للمتفلسف نفسه . و هكذا يمتد نظر الفقيه من التراث تقويما و نقدا لمنهج أشهر دارسيه إلى النظر في علاقة الذات مع الغير (الغرب) سواء مس ذلك الفلسفة اليونانية أو الفلسفة الحديثة و لينتقل النظر بعد ذلك إلى التفكير في وصل العمل بالتفلسف و المنقول بالأصيل . و هكذا نخلص إلى أن الوضوح المنهجي الذي تتميز به كتابات فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان يسهل عمل الدارس و يأخذ بيده أخذا سلسا لطيفا فلا يشعر يالتنابز أو التناقض بين مرحلة و أخرى في مسار نظره الفلسفي ، و سنسعى في هذا المقال أن نبين المعالم الكبرى لهذا المشروع عبر الخطوات التالية :
1 – في مقومات منهج النظر إلى التراث .
2 – في أسس الحوار مع الغير .
3 –في نقد الحداثة
4-في وصل الفكر بمحيطه التداولي
5-في وصل الفكر بالأخلاق
1-في مقومات منهج النظر في التراث
يرى فقيه الفلسفة الدكتور طه عبد الرحمان أن الاشتغال على التراث ضرورة لا تتعلق بالماضي وحده بل هو متصل بالحاضر ومستشرف للمستقبل والدليل على ذلك تكاثر التآليف والأعمال التي تتخذ من التراث موضوعا حتى غدا النظر إليه (التراث) لب المشاريع الفكرية لهذا المفكر أو ذاك، عليه يجرب آلته المنهاجية منقولة كانت أو أصيلة ويختبر من خلاله قوة المفاهيم التي تسلح بها، ونكاد نقول إن النظر إلى التراث شكل البرهان الذي ما يعلوه برهان حتى بالنسبة إلى الحداثي المتطرف في الأخذ عن الغير الزاعم الانقطاع عن التراث .
وحتى يسلم النظر السديد إلى التراث ويقوى في إثبات دعاويه، وجب أن يتخلص من أي حكم مسبق يجعل من الباحث عبدا لهواه الفكراني فيؤول ويتخذ المواقف لا على أساس ما يتطلبه المقتضى العلمي ولكن حتى يرضي مسبقاته السياسية وعقائده الفكرية كما وجب أن يتسلح بمعرفة مناهج المتقدمين من علماء الإسلام ومزاوجتها بحظ كاف من المناهج الحديثة متجاوزا حدود الاستهلاك متوخيا سبل الإبداع والاجتهاد في صوغ النظريات على أن البغية المعرفية من فحص التراث لا تتأتى إلا بالإلمام الشامل لجميع أقسامه والانتباه لأدق جزئياته حتى ما أهمل من قبل الغير .
ويمكن القول إن النظر في التراث محكوم –إن أراد الفائدة – بالموضوعية والشمول والانفتاح وهو مطالب بالإبداع في رص دعاويه والاجتهاد قي استنباط الأحكام وان رام النفع تعامل معه تعاملا تكامليا لا تجزيء معه ،واصلا فيه بين النظر والسلوك ونشدان الحق وتوخي الصواب والصدع به مهما كلف من أثمان.
2-في أسس الحوار
إن الإيمان بالحوار إقرار بالاختلاف ، والاختلاف غذاء للفكر –لا شك- فيه ينمو ويربو ويحقق التكوثر المعرفي المقصود إذا احترم جملة شروط ومقتضيات أهمها:
أولا: عدم حسم هذا الاختلاف بالعنف الذي يلجا إليه من لا برهان له، وأجدني في هذا المقام مضطرا إلى ربط ما قاله فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان بالوضع السياسي والثقافي الذي تعيشه الأمة العربية والبلاد التي ترزح تحت وطأة الاستبداد، إذ أن أزمتها الخانقة تتصل اتصالا بغياب الحوار بين الدولة والمتنورين والفاعلين من هيئات وأحزاب، فيلجا أصحاب السلطان إلى العنف والحصار، وينزوي المخالفون إلى خيارات تؤدي نحو الفوضى والاضطراب ،أو على اقل تقدير إلى السكون الذي يميت الحضارات وهي الخيارات التي نلمسها بيننا فنعدها من انحرافات السلوك كالانشقاق والميل إلى التمرد أو الإذعان الملفوف بالخوف والنفاق.
ومما يجب التذكير به إن حسم الاختلاف بالعنف ليس مسلكا تلجا إليه الدولة وحدها، بل يلجا إليه الغلاة والمتطرفون من كافة الألوان الفكرانية الذين إن عدموا الوسائل إلى العنف المادي مالوا إلى العنف الرمزي من سب أو قذف أو التعرض للأعراض بالباطل متى اشتد عوزهم إلى البرهان بآلة المنطق أو من الشواهد الملموسة .
ثانيا: لا يقوم الحوار إلا بقيام الحرية، ذلك أن حرية المدعي تكمن في امتلاكه حق وضع الرأي والذود عنه، أما حرية المتلقي فتنبني على حرية الاعتراض وتقليب الرأي من جميع وجوهه حسب الإمكان حتى الوصول إلى الصواب.
ثالثا: ربط الأقوال بالأعمال والنظر بالسلوك وما اضعف وضع المتحاورين الذين تفارق ادعاءاتهم مهما كانت حجتها ،إن ناقض فيها القول السلوك كما هو شائع في المشهد السياسي والثقافي عندنا.
رابعا: لا يؤتي الحوار ثماره إلا إذا ارتضى نتيجة واضحة آخر الأمر وهي المتمثلة في قبول الصواب مهما كان الذي هو نتاج التعاون بين المتحاورين .
خامسا : إن الحوار ليس مطلبا ينهض به آحاد الأفراد، بل هو ضرورة يجب تعميم أخلاقياتها وضوابطها بين الجماعات الفكرانية والسياسية بعضها مع البعض الأخر وبين الشعوب والأمم أيضا
3-في نقد الحداثة.
ما أكثر الأصوات الداعية إلى الحداثة حتى أنها أصبحت شعارا مسكوكا يرفعه الرافعون في كل ناد وفي كل مجال، فغدا لها وقع السحر في نفوس المثقفين والمبدعين والساسة.ويحق لنا أن نسائلهم حول فهمهم للحداثة وما هي خارطة الطريق الموصل إليها. حينذاك ستجد نفسك أمام أجوبة شتى ، أكثرها يتماشى مع فتنة المفهوم دون أن يتسلح ببرنامج دقيق يوصلنا إليها .بل هناك من يظن انه داخل غمار الحداثة محتم بحصونها وهو الغارق في التقليد المغلول بقيود الإتباع القاصر عن إدراك أسباب الإبداع .وهي آفة استدعت صرخات الاعتراض تماما كما فعل الشاعر والناقد احمد المجاطي في رصده لازمة الشعر العربي الحديث
أما نظر الفقيه طه عبد الرحمان إلى الحداثة فيتأسس على نقد شكلين من أشكال التقليد والإتباع :
أولهما: دفع إتباع مسلك المتأخرين من مفكري الغرب وفلاسفتهم أي انتقاد المقتفين لخطوات الغرب دون تمحيص أو غربلة
ثانيهما : رد مسلك إتباع المتقدمين من علماء المسلمين من غير إعمال لحاسة النقد أو استثمار القدرة على التخطي والتجاوز .
والمسلكان يجانبان الصواب فمن اجل إدراك مرتبة الإبداع وتحصيل أفق الحداثة علينا أن نعمد إلى نقد المفاهيم المنقولة عن الغرب حتى التأكد من جدواها ومن صحتها ثم القيام بتبيئتها لتنسجم مع المحيط التداولي العربي الإسلامي فتغدو في حكم المفاهيم الماصولة
كما وجب تمحيص المفاهيم التراثية والبحث عن نواقصها حتى تبدي قدرتها على مسايرة ما استجد وإلا تركناها
ويسجل فقيه الفلسفة أن دعاة الحداثة عندنا وقعوا في أخطاء قاتلة أهمها :
ا-أنهم ربطوا الحداثة بكل ما يأتي من الغرب واعتباره نافعا نفعا لا ضرر معه
ب-أنهم اغفلوا الأخلاق ولم يعتمدوها ركنا من أركان تقويم الحداثة
ج-أنهم قصروا الحداثة على الجانب المادي دون تعميمها على الجانب المعنوي
د-أنهم الم يميزوا بين دوائر الحداثة واعتبار الفروق بينها فالحداثة الفلسفية تختلف عن الحداثة الأدبية والحداثة الفرنسية تتمايز عن الحداثة الألمانية
والواضح من كل ما سبق أن فقيه الفلسفة ينشد تفرد المسلمين بحداثتهم المدمجة للأخلاق المزاوجة بين الماديات والمعنويات المقرة بالتنوع ،المتوسلة باليات التطوير والتنقيح ومن ثمة القطع مع اعتبار الحداثة معادلا للأطروحات العلمانية أو محكومة بالتخلي عن الدين
وبناء على ذلك تصبح الحداثة الحقة موصولة الروح بثلاث خصائص:
ا-حداثة راشدة:لا يعتمد المحتمون بأسوارها على الغير فلا يقلدونهم،ومقتضى الرشد في ذلك تحقيق الاستقلال الفكري والحضاري وتجسيدا فعليا لمبدأ الحرية وطريقا إلى الإبداع وإدراك المزايلة الحضارية
ب-حداثة ناقدة:وهي الممحصة لكل ما يرد عليها من مفاهيم وسلوكيات حتى يتبث نفعها ويؤمن ضررها
ج-حداثة شاملة:لا تقتصر على مجال دون آخر ولا على فئة معلومة بل هي شاملة لكل أفراد المجتمع متحققة في كل الميادين قادرة على الانفتاح والتواصل مع الأمم الأخرى
4-في وصل الفكر بمجاله التداولي
ما أضيع الجهود المبذولة في مجال الترجمة عندنا مادامت غافلة عن سؤال الجدوى والنفع المرتجى من نقل هذا الفكر أو ذاك ومن هذه اللغة إلى تلك ،وما أضيع الترجمات السائرة في تحويل الكلمات والجمل دون اعتبار للسياق المنقول عنه والمنقول إليه ، وما أضيع الترجمات المفتقرة إلى الأفق الذي تسائل من خلاله ذاتها : لماذا تترجم،وماذا تترجم ، وماهي آلياتنا في الترجمة من حيث قهم وتأويل النص الأصلي ونقل ذلك إلى لغة أخرى وفق المقتضيات اللغوية والدلالية والتداولية المناسبة ?
إن فهم الآخر مطلوب والاستفادة منه ضرورة تلك مسلمة لا تحتاج إلى دليل بيد أن الإشكال يقوم على وسائلنا التي نتوسل بها الفهم وإتقان النقل والإبداع فيه ، ويتأسس على طبيعة الغربال الذي نسيجه من اجل أمننا الحضاري وحفظ هويتنا الثقافية،والكيفية التي تضبط بها المفاهيم التي تلج دائرة العلاقة مع الغير مثل الكونية والعولمة وحوار الحضارات وصدام الحضارات وحوار الأديان وحوار شمال/جنوب.
وبأسلوب أخر متى نحاور الغير وعلى أي أساس نحاور ومتى نسالم ومتى نقاوم وهل الكونية اكره استكباري أم ضرورة يقتضيها الحوار وأين منها التعايش مع الغير ونوازع الاستعمار ذي الخطاب الماكر المخادع.
أسئلة ذات وجهة فكرانية ،إن شئت، لكن تفكيكها يحتاج إلى آلية علمية ونسيج متناغم من أدوات التحليل وطرق التفسير وأساليب التبليغ ،ومن أهم بواباتها نجد الترجمة الواصلة بيننا وبين الغير منطلقين من مسلمة نستنبطها من مجموع نظر فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان لهذه المسالة انه إذا فسدت آليات الترجمة فسد فهم الغير وقلت حظوظ الاستفادة منه وتضخم التقليد وضمر الإبداع واختلطت الحدود بين الجوانب العلمية المشتركة وبين العناصر الفكرانية والبصمات الحضارية المخصوصة
وبناء على ما سلف نرى إن تحصيل الإفادة من الغير لا تتحقق الابجملة شروط :
ا)درء آفة التقليد في الترجمة عبر مستوياتها الثلاثة اللفظية والدلالية والتداولية
ب)عدم الاقتصار على الترجمة عن نافذة واحدة هي الفرنسية
ج) تجاوز عقلية التلمذة أثناء خوض غمار الترجمة والحوار مع الغير
د) تجاوز المنهج التعلمي التعليمي في الحوار مع الغير
س)عدم تقديس النص المترجم
ك)الاجتهاد في الترجمة والإبداع فيها بإدارتها لفظيا ودلاليا حتى تنسجم مع المجال التداولي للغة المترجم إليها
د)عدم الوقوع في التفسير الخاطئ للكونية الموجبة للاشتغال بالإشكاليات نفسها والطرائق ذاتها مهما اختلفت اللغات وتعددت الثقافات بل الكونية المنتجة هي التي تتم وفق مبدأ التواصل والتفاعل بين هذه الشعوب مع احتفاظها بخصوصياتها وإدارتها لاشكالياتها الخاصة بالأساليب التي تراها مناسبة
5-في وصل الفكر بالأخلاق
لقد مر القول إن جني ثمار الحوار بأنواعه ، وقطف فاكهة التفلسف والاستلذاذ بها، وإدراك أعلى مراتب الحداثة ،كل ذلك مشروط بالتسلح بأداة منهجية قائمة على التكامل والدقة في اختيار مفاهيم النقد والتمحيص ، وإدراك القدرة على التأصيل والإبداع ،والعمل على إبلاغ ذلك
وفق مقتضيات المجال التداولي الذي تتم فيه عملية التفلسف والتفكير. غير أن فائدة التفلسف وتعميم النفع من النظر لا يبلغ منتهاه إلا إذا وصلناه بالأخلاق التي هي تجسيد عملي لخلاصات التفلسف ونتائج النظر، وانتقال للغاية التي خلق من اجلها الإنسان ، فكان النظر الملكي- إن تم بشروطه - جسرا إلى السباحة في الملكوت الالاهي الذي لا حد له هناك فقط تجد للأسباب المحركة للعالم الملكي التفسير الصحيح والتعليل السليم ،والمقصود من هذا كله أن معيار التخلق الأسمى في النظر الفلسفي هي وصل عالم الملك بعالم الملكوت الذي هو وصل الإنسان والعالم بالله ولا طريق إلى ذلك إلا بالإسلام وبالممارسة الصوفية فيه على وجه التحديد .
وانسجاما مع ما سلف يرى فقيه الفلسفة ضرورة قياس رقي الدول وتقدمها بمدى تحصيل التخلق فيها والمرتكز على جماعة مبادئ هي أساس الكمال الإنساني وتتمثل في تحقق المساواة وتفشي العدل ونشدان الإحسان .فالمساواة تتضمن ما رفعته فرنسا من شعارات الإخاء والحرية
ما دامت الحرية هي الأصل قي الإنسان والإخاء هو الأساس في قيام وقوامة وقومة الأمة الإسلامية فلا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين اسود و ابيض إلا بالتقوى
أما العدل فهو غاية الممارسة الديمقراطية بما تحققه من حقوق أحاد وهيئات الأمة في تدبير الشأن العام وما ترسخه من استقلال للقضاء وما تنشده من عدالة اجتماعية ورفاه اقتصادي
وأما أفضلية الإسلام فتتجلى قي الإحسان إذ أن الأمة والأفراد لم يستخلفوا في الأرض إلا ليحققوا أعلى مراتب التعبد والتي تعني الانتقال من النظر الملكي إلى اليقين الملكوتي
أما بعد
فهذا نظر أجهدنا غاية الإجهاد وما شرعنا بعد في الاستواء على أولى أدراجه ، نظر يدفعك أيها المتلقي إلى احترامه الاحترام اللازم فلا يتحقق لك المراد منه بقراءته كما تقرأ جرائد الصباح أو التهامه كما تلتهم الوجبات السريعة التي تميز هذا الزمان الثقافي الخاضع للمسخ الحضاري الجاري فينا جريان السم دون أن نشعر آو نلقي له بالا
إن جهد طرح النظر يوازيه –إن أراد الفائدة وتحصيل الإبداع-جهد التلقي الحر المبدع غير مكبل بقيود النظر مهما كان وإلا ضاع النظر، ضـــــــــاع النظر وفقدنا طريقنا إلى اليقظة الفكرية والقومة الحضارية .وهكذا تكلم طه عبد الرحمان كما فهمته